هل سبق وأحسست يوما أنك عشت اللحظة ذاتها من قبل أو الحدث ذاته بوجود الأشخاص ذاتهم؟ هل شعرت أنّ المكان الذي دخلته مألوفا على الرغم من زيارته لأول مرة، هل جربت الشعور بأنّ هناك معرفة مسبقة بشخص ما على الرغم من الالتقاء به لأوّل مرة؟ ليختفي هذا الإحساس بعد ثوان، بنفس السرعة التي ظهر بها! نعم هي ظاهرة ”الرؤية المسبقة” ( le déjà-vu)!
ولأنّها ظاهرة تحدث فجأة وتستمر فترة قصيرة، لم يتمكن الباحثون من دراستها بسهولة، مما جعلها حالة غير مفهومة ومع ذلك، دراسات عديدة وبحوث، أعدت لفهم هذه الظاهرة، فماذا يقول العلم؟

الرؤية المسبقة للأحداث.. ماهي؟
هي الشعور بأنك تعيش مرة أخرى لحظة من الحياة اليومية، هي ظاهرة ‘غريبة’ تصيب الرجال والنساء، وتكون أكثر تكرارا في فترات التوتر أو الإرهاق. وهي تظهر بشكل خاص لدى الشباب، بين سن 15 و25 عاما، لأنّ في هذه الأعمار تكون العقول مازالت قادرة على ملاحظة ما يحدث من تغيّرات بسيطة من بيئتها، وفق الباحث السويسري آرثر فونخوسر.
محفزاتها الرئيسية هي المؤثرات البصرية والسمعية، وخاصة الكلمات، سواء كانت لك أو كلمات الآخرين، كما أظهرت بعض الدراسات أن التوتر والإجهاد يعززان حدوث هذه الظاهرة.
المصطلح الفرنسي الأصل le déjà-vu صاغه الفيلسوف والباحث النفسي الفرنسي إميل بويرك عام 1876، ولكن الناس مروا بهذا الإحساس قبل فترة طويلة من تسميته.

(Émile Boirac) فيلسوف فرنسي وكاتب، مؤلف كتاب ‘مستقبل العلوم النفسية’ تحدث فيه عن ظاهرة ديجافو
وعلى مر السنين اتخذ الإنسان “سبق الرؤية” دليلا على ما كان يؤمن به، فمثلا، نظر سيغموند فرويد إلى “ديجا فو” فرأى رغبات مكبوتة، واعتقد كارل يونغ أنه مرتبط باللاوعي الجماعي، ووصف أفلاطون شيئا مشابها ‘للديجا فو’ كدليل على وجود حياة سابقة، لتطور الابحاث وتفسر الأمر علميا وتربطه بالدماغ وبالذكريات وبعدم التركيز والانتباه.
80 دراسة على مدار 135 عاما..
أكثر من 80 دراسة أُجريت على مدار 135 عاما، في مختلف أنحاء العالم، منها من ربطتها بالشذوذ في الذاكرة، بسبب تشابك في الأعصاب، وعلاقتها بمرض الصرع، أخرى أرجعتها إلى المشاعر الحالية وربطتها بتفاصيل حوادث سابقة، ودراسات فسّرتها باسترجاع الذكريات والمعلومات المنسية.
هذه الظاهرة أكثر انتشارا بين الشباب مقارنة بكبار السن، وفي معظم الأحيان، لا تكون تجربة وحيدة، فعادة ما يذكر الناس عدة حالات من “ديجا فو” على فترات تتراوح بين شهر إلى ستة أشهر.
كما يبدو أن الأشخاص الذين يحبون السفر أكثر عرضة لهذه الظاهرة مقارنة بمن يبقون في بيئتهم المعتادة، كذلك، تزداد وتيرة الظاهرة كلما ارتفع مستوى التعليم والدخل.

الديجا فو ومرضى الصرع…
تقول دراسة أمريكية نُشرت عام 2003، أنّ ‘الرؤية المسبقة للأحداث’ تكون عرضا شائعا لدى الأشخاص الذين يعانون من مرض ‘الصرع’، فبالنسبة لهم، شعور “ديجا فو” يكون بمثابة إنذار لحدوث نوبة.
وفي عام 2012، تمكن باحثون فرنسيون من إعادة إنتاج هذه الآلية لدى مرضى الصرع عن طريق تحفيز القشرة الأنفية، التي تقع أسفل الحُصين. هذه المنطقة من الدماغ تشارك في عملية التعرف، التي تسمح لنا بمعرفة ما إذا كنا قد رأينا وجها أو صورة من قبل على سبيل المثال، وبالتالي، فإن هذه المنطقة هي التي تسبب الظاهرة لدى المصابين بالصرع .
الصرع هو اضطراب عصبي يحدث جراء عدم انتظام نشاط خلايا الدماغ، لذا فإن نوبات الصرع قد تسبب ضررًا لأي عمل يقوم به الجسم ويتم تنسيقه بواسطة الدماغ، والنوبة الصرعية قد تسبب فقدانا تاما للوعي، وتحديقا في الفضاء، وحركات ارتجافية غير إرادية في اليدين والرجلين.
في العام ذاته، 2003 نشر عالم النفس ألان براون ورقة بحثية في مجلة “سيكولوجيكال بولتين” (Psychological Bulletin) تضمنت معلومات عن وهم سبق الرؤية، وربطت تلك المعلومات بالنماذج الموجودة في علم النفس المعرفي وبحوث الذاكرة، ليقوم بعدها رفقة عدد من الباحثين بإدخال دراسة “الديجا فو” إلى العلوم الأساسية.
ذاكرة زائفة…
عدة نظريات، حاولت تفسير لغز هذه الظاهرة، ويبقى التفسير العلمي الأكثر شيوعا هو أن هذا الشعور مرتبط بخلل في الفص الصدغي. هذا الجزء من الدماغ يحتوي على الهياكل المشاركة في عملية التذكر. ويشمل ذلك القشرة الأنفية والحُصين، كنا سبق وذكرنا أعلاه.
هذا الجزء من الدماغ يعتبر مركزا لاستقبال المعلومات الحسية التي تسمح بتخزين المعلومات وربطها معا لتكوين صورة متماسكة تمكننا من تذكر مشهد ما. وبالتالي، فإن “ديجا فو” هو ذاكرة زائفة ناتجة عن خطأ في الدماغ، حيث يتم تسجيل إدراك حاضر مباشرة في الذاكرة طويلة المدى.
في نظرية انقليزية جديدة، لم تحظ بإجماع في الأوساط العلمية، نشرت في عام 2016، قام باحثون من المملكة المتحدة بمراقبة أدمغة المتطوعين باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي في اللحظة التي كانوا يعيشون فيها شعور “ديجا فو”. لمحاكاة الظاهرة، قرأ الباحثون سلسلة من الكلمات المتعلقة بموضوع النوم مثل سرير، حلم، وسادة، دون ذكر كلمة “نوم” نفسها، ثم سألوا المتطوعين عما إذا كانوا قد سمعوا كلمة تبدأ بالحرف “س”، ثم سألوهم عن كلمة “نوم” وعلى الرغم من أن الكلمة لم تكن جزءا من القائمة، إلا أن المتطوعين كان لديهم شعور قوي بأنهم سمعوها.
الملاحظات التي تمت عبر التصوير بالرنين المغناطيسي في تلك اللحظة نفت نظرية الذاكرة الزائفة، باعتبار المناطق الدماغية المشاركة في الذاكرة، وخاصة الحُصين، لم تنشط خلال التجربة، بل كانت المناطق الموجودة في الفص الجبهي، المسؤولة عن اتخاذ القرارات وحل النزاعات، هي التي نشطت.
وفقا لهؤلاء الباحثين، فإن الدماغ يقوم بفحص الذاكرة عندما يكون هناك تعارض بين التجربة التي نعيشها فعليًا والتجربة التي نعتقد أننا مررنا بها. وبالتالي، فإن “ديجا فو” هو علامة على أن نظام فحص الذاكرة يعمل بشكل جيد.

ظاهرة مُتعلقة بالانتباه والإدراك..
بعض الدراسات تبنّت نظرية تعلق هذه الظاهرة بالانتباه والإدراك، ما يعني أنّ ”ديجا فو” تحدث عند رؤية شيء ما مرّتين ولكن بإدراك وانتباه مزدوج بمعنى أن الشيء يُشاهد دون إدراك كامل في المرّة الأولى، نتيجة تشتُّت الانتباه، أو شُرود الذهن، وعند رؤيته مرّة أخرى بإدراك كامل، يشعر الشخص بأنه رآه من قبل، وهذا الإحساس ينشأ، لأنّ الدماغ يكون قد خزّن الصورة التي أدركتها الحواس في المرة الأولى، حتى وإن كان الشخص غير واعٍ بها.
فعند رؤية منظر طبيعي من بعيد، مثلاً، دون انتباه كامل، يمكن أن يتشكّل في الدماغ تصوّر أولي عنه، وعند مشاهدة المنظر نفسه بإدراك كامل فيما بعد، يحدث شعور بأنّ هذا المشهد قد شُوهد سابقا، بينما يكمن ما حدث بالفعل في أن الدماغ استرجع الإدراك الأول فقط.

استرجاع الذكريات..
قد يحدث ”الديجافو” عندما يكون هناك تشابه بين الموقف الحالي وذكرى قديمة مرَّ بها الشخص في الماضي أو أثناء طفولته، ولكنّه غير قادر على استرجاع تلك الذكريات، وهذا التشابه بين البيئة الحالية والذاكرة القديمة قد يُحفز الشّعور بأنّ الموقف حدث من قبل.
عند المرور بمقهى مثلا أو محل قد يتكون لديك شعور بأنّ هذا المكان مألوف، لكن السبب ربما يكون الألوان الأثاث، التي تشبه أشياء سبق لك رؤيتها، ممّا يجعلك تشعر أنك عشت اللحظة ذاتها سابقا.

دراسة من الواقع الافتراضي
آن كليري الأستاذة والباحثة في علم النفس المعرفي والذاكرة بجامعة ولاية كولورادو الأميركية (Colorado State University) جاءت بفكرة ذات تقنية حديثة، حيث استخدمت الواقع الافتراضي لدراسة ‘الديجا فو’، وعرضت أشخاصا لسلسلة من المشاهد في لعبة فيديو “سمز” (Sims) المصممة بعناية بحيث يكون التخطيط المكاني للمشهد مشابها لمشهد آخر على الرغم من أن الصور بحد ذاتها كانت مختلفة تماما.
مر الأشخاص موضع التجربة بوهم سبق الرؤية عندما كان المشهد مشابها للمشهد الذي رأوه من قبل، مما يشير إلى أن التشابه في التخطيط المكاني بين مكانين قد يؤدي إلى إحساس بالألفة للمكان الجديد، وهو إحساس يشبه ديجا فو.
سنام حفيظ، وهي طبيبة نفسية، وأخصائية في علم النفس العصبي، ومديرة إكلينيكية للخدمات النفسية الاستشارية الشاملة في مدينة نيويورك، تكشف لشبكة “فوكس نيوز” أنّ ما بين 60 و70% من الأشخاص الذين يتمتعون بصحة جيدة عاشوا أحد أشكال ظاهرة ‘ديجا فو’ خلال حياتهم.
وأشارت إلى أنّه من المهم ملاحظة أن الظاهرة لا ترتبط بأي حالة طبية أو نفسية معينة، وإنها عادة ما تكون تجربة قصيرة وعابرة، وتعد جانبا طبيعيا من الإدراك والذاكرة البشرية”.
هذه التصريحات تتعارض مع الدراسة التي تتبنى نظرية علاقة هذه الظاهرة بالأشخاص الذين يعانون من الصرع (أنظر أعلاه) .
‘ديجافو’ أمرا عاديا ولا يشكل خطرا
ختاما، أجمعت كل الأبحاث والدراسات، باختلاف نظرتها وتحليلها للظاهرة، على أن ‘ديجافو’ أمرا عاديا ولا يشكل خطرا على الأشخاص الأصحاء، إلأ أن تكرار حدوثه قد يكون مرتبطا بحالات عصبية، مثل نوبات الصرع، وعندها لابدّ من مراجعة طبيب مختصّ.
ظاهرة أخرى تسمى ”déjà senti” تختلف هي عن سابقتها لأنها أغرب وأندر، فما هي وما أسبابها؟ انتظرونا في مقال جديد!